الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
فأجاب: الحديثان كذب، ولكن في الصحيح عنه أنه قال: (لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولكن شرقوا أو غربوا). وفي السنن عنه أنه قال: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، وهذا خطاب منه لأهل المدينة ومن جري مجراهم كأهل الشام والجزيرة والعراق، وأما مصر فقبلتهم بين المشرق والجنوب، من مطلع الشمس في الشتاء. والله أعلم.
/ فأجاب: الحمد لله، التنحنح بعد البول والمشي، والطفر إلى فوق والصعود في السلم، والتعلق في الحبل، وتفتيش الذكر بإسالته وغير ذلك، كل ذلك بدعة، ليس بواجب ولا مستحب عند أئمة المسلمين، بل وكذلك نتر الذكر بدعة على الصحيح، لم يشرع ذلك رسول الله صلىالله عليه وسلم . وكذلك سلت البول بدعة، لم يشرع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحديث المروي في ذلك ضعيف لا أصل له، والبول يخرج بطبعه، وإذا فرغ انقطع بطبعه، وهو كما قيل: كالضرع إن تركته قر، وإن حلبته در. /وكلما فتح الإنسان ذكره فقد يخرج منه، ولو تركه لم يخرج منه. وقد يخيل اليه أنه خرج منه وهو وسواس، وقد يحس من يجده بردًا لملاقاة رأس الذكر فيظن أنه خرج منه شيء ولم يخرج. والبول يكون واقفًا محبوسًا في رأس الإحليل لا يقطر، فإذا عصر الذكر أو الفرج أو الثقب بحجر أو أصبع أو غير ذلك خرجت الرطوبة، فهذا ـ أيضًا ـ بدعة، وذلك البول الواقف لا يحتاج إلى إخراج باتفاق العلماء، لا بحجر، ولا إصبع، ولا غير ذلك، بل كلما أخرجه جاء غيره، فإنه يرشح دائمًا. والاستجمار بالحجر كاف لا يحتاج إلى غسل الذكر بالماء. ويستحب لمن استنجي أن ينضح على فرجه ماء، فإذا أحس برطوبته قال: هذا من ذلك الماء. وأما من به سلس البول ـ وهو أن يجري بغير اختياره لا ينقطع ـ فهذا يتخذ حفاظًا يمنعه، فإن كان البول ينقطع مقدار ما يتطهر ويصلى، وإلا صلى. وإن جري البول ـ كالمستحاضة ـ تتوضأ لكل صلاة. والله أعلم.
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، الأفضل أن يستاك باليسرى، نص عليه الإمام أحمد في رواية ابن منصور الكَوْسَج، ذكره عنه في مسائله وما علمنا أحدًا من الأئمة خالف في ذلك؛ وذلك لأن الاستياك من باب إماطة الأذى، فهو كالاستنثار والامتخاط؛ ونحو ذلك مما فيه إزالة الأذى، وذلك باليسرى، كما أن إزالة النجاسات كالاستجمار ونحوه باليسرى، وإزالة الأذي واجبها ومستحبها باليسرى. والأفعال نوعان: أحدهما: مشترك بين العضوين. والثاني: مختص بأحدهما. وقد استقرت قواعد الشريعة على أن الأفعال التي تشترك فيها / اليمني واليسرى: تقدم فيها اليمني إذا كانت من باب الكرامة، كالوضوء والغسل، والابتداء بالشق الأيمن في السواك؛ ونتف الإبط، وكاللباس، والانتعال، والترجل، ودخول المسجد والمنزل، والخروج من الخلاء، ونحو ذلك. وتقدم اليسرى في ضد ذلك؛ كدخول الخلاء، وخلع النعل، والخروج من المسجد. والذي يختص بأحدهما: إن كان من باب الكرامة كان باليمين، كالأكل والشرب، والمصافحة، ومناولة الكتب، وتناولها، ونحو ذلك. وإن كان ضد ذلك كان باليسرى، كالاستجمار، ومس الذكر، والاستنثار، والامتخاط، ونحو ذلك. فإن قيل: السواك عبادة مقصودة تشرع عند القيام إلى الصلاة وإن لم يكن هناك وسخ، وما كان عبادة مقصودة كان باليمين. قيل: كل من المقدمتين ممنوع، فإن الاستياك إنما شرع لإزالة ما في داخل الفم، وهذه العلة متفق عليها بين العلماء؛ ولهذا شرع عند الأسباب المغيرة له، كالنوم والإغماء، وعند العبادة التي يشرع لها تطهير، كالصلاة والقراءة، ولما كان الفم في مظنة التغير شرع عند /القيام إلى الصلاة، كما شرع غسل اليد للمتوضئ قبل وضوئه؛ لأنها آلة لصب الماء.وقد تنازع العلماء فيما إذا تحقق نظافتها: هل يستحب غسلها؟ على قولين مشهورين. ومن استحب ذلك ـ كالمعروف في مذهب الشافعي وأحمد ـ يستحب على النادر بل الغالب، وإزالة الشك باليقين. وقد يقال مثل ذلك في السواك إذا قيل باستحبابه ـ مع نظافة الفم ـ عند القيام إلى الصلاة، مع أن غسل اليد قبل المضمضة المقصود بها النظافة، فهذا توجيه المنع للمقدمة الأولي. وأما الثانية: فإذا قدر أنه عبادة مقصودة، فما الدليل على أن ذلك مستحب باليمنى؟ وهذه مقدمة لا دليل عليها، بل قد يقال: العبادات تفعل بما يناسبها، ويقدم فيها ما يناسبها. ثم قول القائل: إن ذلك عبادة مقصودة، إن أراد به أنه تعبد محض لا تعقل علته، فليس هذا بصواب، لاتفاق المسلمين على أن السواك معقول، ليس بمنزلة رمي الجمار. وإن أراد أنها مقصودة أنه لابد فيها من النية كالطهارة، وأنها مشروعة مع تيقن النظافة ونحو ذلك، فهذا الوصف إذا سلم لم يكن في ذلك ما يوجب كونها باليمنى؛ إذ لا دليل على ذلك، فإن كونها منوية أو مشروعة مع تيقن النظافة/لا ينافي أن يكون من باب الكرامة تختص بها اليمني، بل يمكن ذلك فيها مع هذا الوصف، ألا تري أن الطواف بالبيت من أجَلِّ العبادات المقصودة؟ ويستحب القرب فيه من البيت، ومع هذا فالجانب الأيسر فيه أقرب إلى البيت، لكون الحركة الدورية تعتمد فيها اليمني على اليسرى، فلما كان الإكرام في ذلك للخارج جعل لليمين، ولم ينقل إذا كانت مقصودة، فينبغي تقديم اليمني فيها إلى البيت؛ لأن إكرام اليمين في ذلك أن تكون هي الخارجة. وكذلك الاستنثار جعله باليسرى إكرام لليمين، وصيانة لها، وكذلك السواك. ثم إذا قيل: هو في الأصل من باب إزالة الأذي، وإذا قيل: إنه مشروع فيه العدول عن اليمني إلى اليسرى أعظم في إكرام اليمين بدون ذلك، لم يمنع أن يكون إزالة الأذي فيه ثابتة مقصودة، كالاستجمار بالثلاث عند من يوجبه، كالشافعي وأحمد، فإنهم يوجبون الحجر الثالث مع حصول الإنقاء بما دونه. وكذلك التثليث والتسبيع في غسل النجاسات حيث وجب، وعند من يوجبه يأمر به وإن حصلت الإزالة بما دونه. وكذلك التثليث في الوضوء مستحب ـ وإن تنظف العضو بما دونه ـ مع أنه لا شك أن إزالة النجاسة مقصودة في الاستنجاء بالماء والحجر. /فكذلك إماطة الأذي من الفم مقصودة بالسواك قطعا وإن شرع مع عدمه،تحقيقًا لحصول المقصود، وذلك لا يمنع من أن يجعل باليسرى، كما أن الحجر الثالث في الاستجمار يكون باليسرى، والمرة السابعة في ولوغ الكلب تكون باليسرى، ونحو ذلك مما كان المقصود به ـ في الأصل ـ إزالة الأذي. وإن قيل: يشرع مع عدمه تكميلا للمقصود به وإزالة للشك باليقين، إلحاقًا للنادر بالغالب؛ ولأن الحكمة في ذلك قد تكون خفية، فعلق الحكم فيها بالمظنة؛ إذ زوال الأذي بالكلية قد يظنه الظان من غير تيقن، ويعسر اليقين في ذلك، فأقيمت المظنة فيه مقام الحكمة، فجعل مشروعًا للقيام إلى الصلاة مع عدم النظر إلى التغير وعدمه؛ لأن العادة حصول التغير. فهذا إذا قيل به فهو من جنس أقوال العلماء،وذلك لا يخرج جنس هذا الفعل من أن يكون من باب إزالة الأذي، وإن كان عبادة مقصودة تشرع فيها النية، وحينئذ يكون باليسرى كالاستنثار والاستنجاء بالأحجار، ومباشرة محل الولوغ بالدلك ونحوه، بخلاف صب الماء فإنه من باب الكرامة، ولهذا كان المتوضئ يستنشق باليمنى ويستنثر باليسرى، والمستنجي يصب الماء باليمين ويدلك باليسرى. وكذلك المغتسل والمتوضئ من الماء، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم: يدخل يده اليمني في الإناء فيصب بها على اليسرى، مع أن/مباشرة العورة في الغسل باليسرى، وهكذا غاسل مورد النجاسة يصب باليمنى، وإذا احتاج إلى مباشرة المحل باشره باليسرى، وشواهد الشريعة وأصولها على ذلك متظاهرة. والله أعلم.
فأجاب: أما الختان فمتى شاء اختتن، لكن إذا راهق البلوغ فينبغي أن يختتن كما كانت العرب تفعل، لئلا يبلغ إلا وهو مختون. وأما الختان في السابع ففيه قولان، هما روايتان عن أحمد، قيل: لا يكره؛ لأن إبراهيم ختن إسحاق في السابع. وقيل: يكره لأنه عمل اليهود، فيكره التشبه بهم، وهذا مذهب مالك. واللّه أعلم.
فأجاب: إذا لم يخف عليه ضرر الختان فعليه أن يختتن، فإن/ذلك مشروع مؤكد للمسلمين باتفاق الأئمة، وهو واجب عند الشافعي وأحمد في المشهور عنه، وقد اختتن إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ بعد ثمانين من عمره، ويُرْجَع في الضرر إلى الأطباء الثقات، وإذا كان يضره في الصيف أخره إلى زمان الخريف. واللّه أعلم.
وسئلَ عَن المرأة هَل تختتن أم لا؟ فأجاب: الحمد للّه، نعم، تختتن، وختانها أن تقطع أعلى الجلدة التي كعرف الديك، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للخافضة ـ وهي الخاتنة ـ: (أشمي ولا تُنْهِكي، فإنه أبهي للوجه، وأحظي لها عند الزوج) ، يعني: لا تبالغي في القطع، وذلك أن المقصود بختان الرجل تطهيره من النجاسة المحتقنة في القلفة، والمقصود من ختان المرأة تعديل شهوتها، فإنها إذا كانت قلفاء كانت مغتلمة شديدة الشهوة. ولهذا يقال في المشاتمة: يابن القلفاء! فإن القلفاء تتطلع إلى الرجال أكثر، ولهذا يوجد من الفواحش في نساء التتر ونساء الإفرنج ما لا يوجد في نساء المسلمين. وإذا حصلت المبالغة في الختان، ضعفت الشهوة، فلا يكمل مقصود الرجل، فإذا قطع من غير مبالغة، حصل المقصود باعتدال. واللّه أعلم.
/ فأجاب: ولا يختن أحد بعد الموت.
وَسُئِلَ: كم مقدار أن يقعد الرجل حتى يحلق عانته؟ فأجاب: عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وَقَّت لهم في حلق العانة ونتف الإبط ونحو ذلك: ألا يترك أكثر من أربعين يوما. وهو في الصحيح. واللّه أعلم. مَا تقول السَّادة العُلمَاء ـ رضي اللّه عَنهم أجمعين: في أقوام يحلقون رؤوسهم على أيدي الأشياخ، وعند القبور التي/ يعظمونها، ويعدون ذلك قربة وعبادة: فهل هذا سنة أو بدعة؟ وهل حلق الرأس مطلقاً سنة أو بدعة؟ أفتونا مأجورين؟ فأجاب شيخ الإسلام: الحمد للّه رب العالمين، حلق الرأس على أربعة أنواع: أحدها: حلقه في الحج والعمرة فهذا مما أمر اللّه به ورسوله، وهو مشروع ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال تعالى: /والنوع الثاني: حلق الرأس للحاجة، مثل أن يحلقه للتداوي، فهذا ـ أيضاً ـ جائز بالكتاب والسنة والإجماع، فإن اللّه رخص للمحرم الذي لا يجوز له حلق رأسه أن يحلقه إذا كان به أذي، كما قال تعالى: النوع الثالث: حلقه على وجه التعبد والتدين والزهد، من غير حج ولا عمرة، مثل ما يأمر بعض الناس التائب إذا تاب بحلق رأسه ومثل أن يجعل حلق الرأس شعار أهل النسك والدين، أو من تمام الزهد والعبادة، أو يجعل من يحلق رأسه أفضل ممن لم يحلقه أو أدين أو أزهد، أو أن يقصر من شعر التائب، كما يفعل بعض المنتسبين إلى المشيخة ـ إذا تَوَّب أحداً ـ أن يقص بعض شعره، ويعين الشيخ صاحب مقص وسجادة؛ فيجعل صلاته على السجادة، وقصه رؤوس الناس من تمام المشيخة التي يصلح بها أن يكون قدوة يتوِّب /التائبين، فهذا بدعة لم يأمر اللّه بها ولا رسوله، وليست واجبة ولا مستحبة عند أحد من أئمة الدين، ولا فعلها أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا شيوخ المسلمين المشهورين بالزهد والعبادة، لا من الصحابة ولا من التابعين ولا تابعيهم ومن بعدهم، مثل الفُضَيل بن عِيَاض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الدَّاراني، ومعروف الكَرْخي، وأحمد بن أبي الحواري، والسَّرقُسْطي؛ والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد اللّه التُّسْتُري، وأمثال هؤلاء لم يكن هؤلاء يقصون شعر أحد إذا تاب، ولا يأمرون التائب أن يحلق رأسه. وقد أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم جميع أهل الأرض، ولم يكن يأمرهم بحلق رؤوسهم إذا أسلموا، ولا قص النبي صلى الله عليه وسلم رأس أحد. ولا كان يصلى على سجادة، بل كان يصلى إماما بجميع المسلمين؛ يصلى على ما يصلون عليه، ويقعد على ما يقعدون عليه،لم يكن متميزاً عنهم بشيء يقعد عليه، لا سجادة ولا غيره، ولكن يسجد أحياناً على الخميرة ـ وهي شيء يصنع من الخوص صغير ـ يسجد عليها أحياناً؛ لأن المسجد لم يكن مفروشاً، بل كانوا يصلون على الرمل والحصي، وكان أكثر الأوقات يسجد على الأرض حتى يبين الطين في جبهته ـ صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم تسليماً. ومن اعتقد البدع ـ التي ليست واجبة ولا مستحبة ـ قربة وطاعة/وطريقاً إلى اللّه، وجعلها من تمام الدين، ومما يؤمر به التائب والزاهد والعابد، فهو ضال، خارج عن سبيل الرحمن، متبع لخطوات الشياطين. والنوع الرابع: أن يحلق رأسه في غير النسك لغير حاجة، ولا على وجه التقرب والتدين، فهذا فيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد: أحدهما: أنه مكروه، وهو مذهب مالك وغيره. والثاني: أنه مباح، وهو المعروف عند أصحاب أبي حنيفة والشافعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأي غلاماً قد حلق بعض رأسه فقال: (احلقوه كله أو دعوه كله) ، وأتي بأولاد صغار بعد ثلاث فحلق رؤوسهم. ولأنه نهي عن القزع، والقزع: حلق البعض، فدل على جواز حلق الجميع. والأولون يقولون: حلق الرأس شعار أهل البدع، فإن الخوارج كانوا يحلقون رؤوسهم، وبعض الخوارج يعدون حلق الرأس من تمام التوبة والنسك. وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يقسم جاءه رجل عام الفتح كث اللحية محلوق.
/ فأجاب: الحمد للّه رب العالمين، نتف الشيب مكروه للجندي وغيره، فإن في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهي عن نتف الشيب، وقال: إنه نور المسلم).
وَسُئِلَ عن الرجل إذا كان جنباً وقص ظفره أو شاربه، أو مشط رأسه هل عليه شيء في ذلك؟ فأجاب: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث حذيفة،/ومن حديث أبي هريرة رضي اللّه عنهما: أنه لما ذكر له الجنب قال: (إن المؤمن لا ينجس). وفي صحيح الحاكم: (حياً ولا ميتا). وما أعلم على كراهية إزالة شعر الجنب وظفره دليلا شرعيًا، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي أسلم: (ألق عنك شعر الكفر واختتن) ، فأمر الذي أسلم أن يغتسل ولم يأمره بتأخير الاختتان وإزالة الشعر عن الاغتسال، فإطلاق كلامه يقتضي جواز الأمرين. وكذلك تؤمر الحائض بالامتشاط في غسلها مع أن الامتشاط يذهب ببعض الشعر. واللّه أعلم.
من العلماء من أوجب جميع الرأس ومنهم من أوجب ربع الرأس، ومنهم من قال: بعض شعره يجزئ: فما ينبغي أن يكون الصحيح من ذلك؟ بينوا لنا ذلك! فأجاب: الحمد للّه، اتفق الأئمة كلهم على أن السنة مسح جميع الرأس، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة والحسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الذين نقلوا وضوءه لم ينقل عنه أحد منهم أنه اقتصر على مسح بعض رأسه، وما يذكره بعض الفقهاء ـ كالقُدُوري في أول مختصره وغيره ـ أنه توضأ ومسح على ناصيته: إنما هو بعض الحديث الذي في الصحيح من حديث المغيرة ابن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ عام تبوك ومسح على ناصيته . ولهذا ذهب طائفة من العلماء إلى جواز مسح بعض الرأس، وهو/ مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقول في مذهب مالك وأحمد. وذهب آخرون إلى وجوب مسح جميعه، وهو المشهور من مذهب مالك وأحمد وهذا القول هو الصحيح، فإن القرآن ليس فيه ما يدل على جواز مسح بعض الرأس،فإن قوله تعالى: ومن ظن أن من قال بإجزاء البعض؛ لأن الباء للتبعيض، أو دالة على القدر المشترك، فهو خطأ أخطأه على الأئمة، وعلى اللغة، وعلى دلالة القرآن. والباء للإلصاق وهي لا تدخل إلا لفائدة، فإذا دخلت على فعل يتعدي بنفسه أفادت قدراً زائداً، كما في قوله: وباب تضمين الفعل معني فعل آخر حتى يتعدي بتعديته ـ كقوله: وكذلك المسح في الوضوء والتيمم لو قال: فامسحوا رؤوسكم أو وجوهكم، لم تدل على ما يلتصق بالمسح، فإنك تقول: مسحت رأس فلان ـ وإن لم يكن بيدك بلل ـ فإذا قيل: فامسحوا برؤوسكم وبوجوهكم، ضَمَّن المسح معني الإلصاق، فأفاد أنكم تلصقون برؤوسكم وبوجوهكم شيئاً بهذا المسح، وهذا يفيد في آية التيمم أنه لابد أن يلتصق الصعيد بالوجه واليد، ولهذا قال: ثم تنازعوا: فمنهم من قال: يجزئ قدر الناصية ـ كرواية عن أحمد وقول بعض الحنفية. ومنهم من قال: يجزئ الأكثر ـ كرواية عن أحمد وقول بعض المالكية. ومنهم من قال: يجزئ الربع. ومنهم من قال: قدر ثلاث أصابع ـ وهما قولان للحنفية. ومنهم من قال: ثلاث شعرات أو بعضها. ومنهم من قال: شعرة أوبعضها ـ وهما قولان للشافعية. وأما الذين أوجبوا الاستيعاب ـ كمالك وأحمد في المشهور من/مذهبهما ـ فحجتهم ظاهر القرآن. وإذا سَلَّم لهم منازعوهم وجوب الاستيعاب في مسح التيمم، كان في مسح الوضوء أولي وأحري لفظاً ومعني. ولا يقال: التيمم وجب فيه الاستيعاب؛ لأنه بدل عن غسل الوجه. واستيعابه واجب؛ لأن البدل إنما يقوم مقام المبدل في حكمه لا في وصفه؛ ولهذا المسح على الخفين بدل عن غسل الرجلين ولا يجب فيه الاستيعاب مع وجوبه في الرجلين. وأيضاً للسنة المستفيضة من علم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. وأما حديث المغيرة بن شعبة فعند أحمد وغيره من فقهاء الحديث يجوز المسح على العمامة للأحاديث الصحيحة الثابتة في ذلك، وإذا مسح عنده بناصيته وكمل الباقي بعمامته أجزأه ذلك عنده بلا ريب. وأما مالك، فلا جواب له عن الحديث إلا أن يحمله على أنه كان معذوراً لا يمكنه كشف الرأس فتيمم على العمامة للعذر. ومن فعل ما جاءت به السنة من المسح بناصيته وعمامته أجزأه مع العذر بلا نزاع، وأجزأه بدون العذر عند الثلاثة، ومسح الرأس مرة مرة يكفي بالاتفاق كما يكفي تطهير سائر الأعضاء مرة. وتنازعوا في مسحه ثلاثاً: هل يستحب؟ فمذهب الجمهور: أنه لا يستحب ـ كمالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه. /وقال الشافعي وأحمد ـ في رواية عنه ـ: يستحب؛ لما في الصحيح أنه توضأ ثلاثاً ثلاثاً وهذا عام. وفي سنن أبي داود: أنه مسح برأسه ثلاثاً، ولأنه عضو من أعضاء الوضوء فسن فيه الثلاث كسائر الأعضاء. والأول أصح. فإن الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين أنه كان يمسح رأسه مرة واحدة؛ولهذا قال أبو داود السجستاني: أحاديث عثمان الصحاح تدل على أنه مسح مرة واحدة. وبهذا يبطل ما رواه من مسحه ثلاثاً، فإنه يبين أن الصحيح أنه مسح رأسه مرة وهذا المفصل يقضي على المجمل، وهو قوله: (توضأ ثلاثاً ثلاثا، كما أنه لما قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول) كان هذا مجملا، وفسره حديث ابن عمر أنه يقول عند الحيعلة: (لاحول ولا قوة إلا باللّه) ، فإن الخاص المفسر يقضي على العام المجمل. وأيضاً، فإن هذا مسح، والمسح لا يسن فيه التكرار، كمسح الخف والمسح في التيمم ومسح الجبيرة، وإلحاق المسح بالمسح أولي من إلحاقه بالغسل؛ لأن المسح إذا كرر كان كالغسل. وما يفعله الناس من أنه يمسح بعض رأسه بل بعض شعره ثلاث مرات، خطأ مخالف للسنة المجمع عليها من وجهين: من جهة مسحه بعض رأسه، فإنه خلاف السنة باتفاق الأئمة. ومن جهة تكراره، فإنه خلاف السنة على الصحيح ومن يستحب التكرارـ كالشافعي وأحمد في قول ـ لا يقولون:/ امسح البعض وكرره، بل يقولون: امسح الجميع وكرر المسح. ولا خلاف بين الأئمة أن مسح جميع الرأس مرة واحدة أولي من مسح بعضه ثلاثاً، بل إذا قيل: إن مسح البعض يجزئ وأخذ رجل بالرخصة كيف يكرر المسح. ثم المسلمون متنازعون في جواز الاقتصار على البعض وفي استحباب تكرار المسح، فكيف يعدل إلى فعل لا يجزئ عند أكثرهم ولا يستحب عند أكثرهم، ويترك فعل يجزئ عند جميعهم وهو الأفضل عند أكثرهم، واللّه أعلم.
هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على عنقه في الوضوء، أو أحد من الصحابة ـ رضي اللّه عنهم؟ فأجاب: لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على عنقه في الوضوء، بل ولا روي عنه ذلك في حديث صحيح، بل الأحاديث الصحيحة التي فيها صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يمسح على عنقه؛ ولهذا لم يستحب ذلك جمهور العلماء ـ كمالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبهم ـ ومن استحبه فاعتمد فيه على أثر يروي عن/ أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ أو حديث يضعف نقله: أنه مسح رأسه حتى بلغ القَذال، ومثل ذلك لا يصلح عمدة، ولا يعارض ما دلت عليه الأحاديث، ومن ترك مسح العنق فوضوؤه صحيح باتفاق العلماء. واللّه أعلم.
وَقَال شَيْخ الإسْلام ـ رَحمه اللّه: غسل القدمين في الوضوء منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلا متواترا، منقول عمله بذلك وأمره به، كقوله في الحديث الصحيح من وجوه متعددة ـ كحديث أبي هريرة وعبد اللّه بن عمر وعائشة ـ:(ويل للأعقاب من النار) ، وفي بعض ألفاظه: (ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار). فمن توضأ كما تتوضأ المبتدعة ـ فلم يغسل باطن قدميه ولا عقبه بل مسح ظهرهما ـ فالويل لعقبه وباطن قدميه من النار. وتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين، ونقل عنه المسح على القدمين في موضع الحاجة مثل أن يكون في قدميه نعلان يشق نزعهما. وأما مسح القدمين مع ظهورهما جميعا، فلم ينقله أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مخالف للكتاب والسنة. أما مخالفته للسنة فظاهر/ متواتر. وأما مخالفته للقرآن فلأن قوله تعالى: أحدها: أن الذين قرؤوا ذلك من السلف قالوا: عاد الأمر إلى الغسل. الثاني: أنه لو كان عطفاً على الرؤوس، لكان المأمور به مسح الأرجل لا المسح بها، واللّه إنما أمر في الوضوء والتيمم بالمسح بالعضو لا مسح العضو؛ فقال تعالى: /معاوي إننا بشر فأسجح ** فلسنا بالجبال ولا الحديــدا فإن الباء هنا مؤكدة فلو حذفت لم يختل المعني، والباء في آية الطهارة إذا حذفت اختل المعني، فلم يجز أن يكون العطف على محل المجرور بها، بل على لفظ المجرور بها أو ما قبله. الثالث: أنه لو كان عطفاً على المحل لقرئ في آية التيمم: فامسحوا بوجوهكم وامسحوا أيديكم، فكان في الآية ما يبين فساد مذهب الشارع بأنه قد دلت عليه الرابع: أنه قال: الوجه الخامس: أن القراءتين كالآيتين، والترتيب في الوضوء: إما واجب، وإما مستحب مؤكد الاستحباب، فإذا فصل ممسوح بين مغسولين وقطع النظير عن النظير، دل ذلك على الترتيب المشروع في الوضوء. الوجه السادس: أن السنة تفسر القرآن، وتدل عليه وتعبر عنه، وهي قد جاءت بالغسل. الوجه السابع: أن التيمم جعل بدلا عن الوضوء عند الحاجة، فحذف شطر أعضاء الوضوء وخفف الشطر الثاني؛ وذلك لأنه حذف ما كان ممسوحا ومسح ما كان مغسولا. وأما القـراءة الأخـري ـ وهي قراءة مـن قرأ: /والمسح اسـم جنس يدل على إلصاق الممسوح به بالممسوح،ولا يدل لفظـه على جريانـه لا بنفي ولا إثبات. قـال أبو زيد الأنصاري وغـيره: العـرب تقول: تمسحت للصلاة. فتسمي الوضـوء كله مسحاً، ولكن من عادة العرب وغيرهم إذا كان الاسم عاماً تحته نوعان، خصوا أحد نوعيه باسم خاص. وأبقوا الاسم العام للنوع الآخر، كما في لفظ الدابـة فـإنـه عام للإنسان وغيره من الدواب، لكن للإنسان اسم يخصه، فصاروا يطلقونه على غـيره. وكذلك لفـظ الحيـوان، ولفظ ذوي الأرحام يتناول لكل ذي رحم، لكن للـوارث بفـرض أو تعصيب اسـم يخصه. وكـذلك لفظ المؤمـن يتنـاول مـن آمـن باللّه وملائكتـه وكتبه ورسلـه، ومـن آمـن بالجبت والطاغـوت، فصار لهذا النوع اسم يخصه وهـو الكافـر، وأبقي اسم الإيمان مختصا بالأول. وكذلك لفظ البشارة، ونظائر ذلك كثيرة. ثم إنه مع القرينة تارة ومع الإطلاق أخري يستعمل اللفظ العام في معنيين: كما إذا أوصي لذوي رحمه، فإنه يتناول أقاربه من مثل الرجال والنساء. فقوله ـ تعالى ـ في آية الوضوء: وأيضا، فإن المسح الخاص هو إسالة الماء مع الغسل، فهما نوعان: للمسح العام الذي هو إيصال الماء، ومن لغتهم في مثل ذلك أن يكتفي بأحد اللفظين، كقولهم: علفتها تبنا وماء بارداً ** والماء سُقِي لا عُلِف. وقوله: ورأيت زوجـك في الوغـي ** متقلداً سيفا ورمحاً والرمح لا يتقلد. ومنه قوله تعالى: ومن يقول: يمسحان بلا إسالة، يمسحهما إلى الكعاب لا إلى الكعبين، فهو مخالف لكل واحدة من القراءتين، كما أنه مخالف للسنة المتواترة، وليس معه لا ظاهر ولا باطن ولا سنة معروفة، وإنما هو غلط في فهم القرآن وجهل بمعناه وبالسنة المتواترة. وذكر المسح بالرجل مما يشعر بأن الرجل يمسح بها، بخلاف الوجه واليد فإنه لا يمسح بهما بحال، ولهذا جاء في المسح على الخفين اللذين على الرجلين/ما لم يجئ مثله في الوجه واليد، ولكن دلت السنة مع دلالة القرآن على المسح بالرجلين. ومن مسح على الرجلين فهو مبتدع مخالف للسنة المتواترة وللقرآن، ولا يجوز لأحد أن يعمل بذلك مع إمكان الغسل. والرجل إذا كانت ظاهرة وجب غسلها، وإذا كانت في الخف كان حكمها كما بينته السنة؛ كما في آية الفرائض، فإن السنة بينت حال الوارث إذا كان عبداً أو كافراً أو قاتلا. ونظائره متعددة. واللّه ـ سبحانه ـ أعلم.
|